التغيير البنّاء في زمن الانتكاسات العالمية

التاريخ: 2020-11-30

غازي أبو نحل/ مؤسس مجموعة ترست العالمية للتأمين

في نهاية الإجتماعات السنوية الإفتراضية لعام 2020 لصندوق النقد والبنك الدولي، اشادت لجنة التنمية، وهي منتدى على المستوى الوزاري يمثل 189 بلداً عضواً في مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد، بمدى سرعة ونطاق إستجابتهما للجائحة، وحثّت في الوقت ذاته على مواصلة العمل مع البلدان الأعضاء والقطاعين العام والخاص وشركاء التنمية المحليين وغيرهم من المنظمات الدولية. وأشارت إلى أن مجموعة البنك الدولي نفذت مشاريع تمويلية ترتبط بجائحة كورونا. وأعربت اللجنة عن دعمها لتركيز مجموعة البنك الدولي على الاستجابات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن السياسات والمؤسسات والاستثمارات التي ستكون بالغة الأهمية للانتعاش الشامل المستدام والقادر على الصمود. وذكرت أن المجموعة تقوم بدور حاسم في التحديات العالمية الرئيسية، وإن من خلال مساعدة البلدان المعنية على إعادة البناء بشكل أقوى وأفضل، يمكنها تحقيق رسالتها - إنهاء الفقر وتعزيز الرخاء المشترك - فضلاً عن دعم الأهداف الإنمائية لمختلف البلدان.
تابعنا الإجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي إفتراضياً لهذا العام، ولاحظنا مدى تركيز المجتمعين على النواحي الإنسانية والإجتماعية الناجمة عن تفشي هذا الوباء وسبل المواجهة وكيفية العودة إلى أوضاع سليمة وصحية وقادرة، في الوقت نفسه، على إعادة عقارب الساعة، أي الوقت الذي توقفت فيه مشاريع إنقاذ ملايين من البشر من براثن الجهل والفقر والأوبئة والأمراض...
رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس ركز في كلمته على الابعاد الإنسانية للأزمة - وكنا أشرنا في المقال الأخير إلى ضرورة وأهمية معالجة هذه الناحية من تبعات الجائحة - بدءًا من توقعات البنك الدولي الجديدة بأن ما بين 110 ملايين و150 مليون شخص آخرين سيقعون في براثن الفقر المدقع بحلول العام 2021. ونظراً لأن الجائحة قد تسببت في خسائر فادحة في رأس المال البشري، فقد أبرز مالباس دعم البنك الدولي للتعليم عن بعد في 65 بلداً، وعلى شراكته مع اليونيسيف واليونسكو بشأن أطر إعادة فتح المدارس. وإستشرافاً للمستقبل، حثّ مالباس على التعاون دعماً لتحقيق إنتعاش شامل قادر على الصمود، وذكر أنه سيتعين على مختلف البلدان أن تتيح لرأس المال والايدي العاملة والمهارات والإبتكارات الإنتقال إلى بيئة مختلفة للأعمال بعد زوال الجائحة وأنه خلال فترة الإنتعاش من الضروري أن تعمل البلدان المعنية على تحقيق اهدافها المتصلة بالمناخ والبيئة.
إن متابعة دقيقة لهذه الإجتماعات، لاسيما في الشق المتعلق بالنواحي الإنسانية والإجتماعية وشؤون التنمية وسبل مواجهة الفقر، تجعلنا نتوقف عند الأمور الآتية:
-      أدت هذه الجائحة إلى أكبر إنكماش إقتصادي عالمي في العقود الثمانية الماضية: فهي تؤثر على الاقتصادات النامية والناشئة والمتقدمة وتزيد من معدل الفقر العالمي وتفاقم من التفاوت بين طبقات المجتمع وتلحق الضرر بآفاق النمو الإقتصادي على المدى الطويل. وأدى الاغلاق الاقتصادي وفرض القيود وإستمرار حالة عدم اليقين إلى تراجع الإستثمارات والتجارة وتدفقات التحويلات المالية وتآكل فرص العمل ورأس المال البشري وإبقاء الأطفال خارج المدارس والضغط على سلاسل الإمداد الغذائية والطبية. وقد تؤدي الأزمة إلى زيادة تفاقم الهشاشة والصراع والعنف، فضلاً عن تكثيف مخاطرها. وتهدد الأزمة الإقتصادية الأرواح وسبل العيش بين الفئات الضعيفة من السكان، بما في ذلك الأسر التي تقودها النساء والشباب والمسنون واللاجئون والمشردون. كما أنها تعمل على توسيع الفجوات بين الجنسين، وتعرض للخطر ما تحقق بشق الأنفس من مکاسب وتوقعات انمائية للفتيات والأطفال عمومًا. وفي هذا الاطار، لا بد من الاشادة بمجموعة البنك الدولي لسرعة ونطاق استجابتها لمكافحة الجائحة في مختلف البلدان. فقد كانت المجموعة في طليعة المؤسسات المتعددة الأطراف التي بذلت جهودًا تركز على الإغاثة واعادة الهيكلة والانتعاش القادر على الصمود. ونرحب بالتركيز على الاستجابات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، فضلًاعن السياسات والمؤسسات والاستثمارات التي ستكون بالغة الأهمية للانتعاش الشامل المستدام والقادر على الصمود.
 
-       تدعم مجموعة البنك الدولي جهود البلدان الرامية إلى تعزيز النظم الصحية وينبغي أن تستمر في القيام بذلك. ونشدد على أهمية وجود لقاح فعّال لفيروس كورونا ونرحب بالتمويل البالغ حجمه 12 مليار دولار المعتمد مؤخرًا للبلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية والبنك الدولي للانشاء والتعمير لدعم شراء اللقاحات وتوزيعها. ونشجع مجموعة البنك الدولي على المساعدة في جعل الاختبارات والعلاجات واللقاحات ميسورة التكلفة للبلدان النامية مع امكانية حصولها عليها على قدم المساواة. وفي حين مازالت ازمة جائحة کورونا تطرح تحديات صحية واقتصادية واجتماعية واسعة النطاق على مدى فترة طويلة، فإننا نشجع على تكثيف العمل لبناء نظم صحية قوية لها تغطية شاملة، وبالتالي زيادة مستوى التأهب والمرونة ضد الأوبئة في المستقبل. وفي هذا السياق، يمكن للتكنولوجيات الرقمية ضمان تقديم الاستشارات الطبية الحيوية، ومواصلة الخدمات التعليمية، والسماح للشركات بالاستمرار. لذلك نرحب بعمليات مجموعة البنك الدولي التي توسع نطاق الربط الرقمي مع حماية الأمن وخصوصية البيانات، وتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية ودعم التحول الرقمي. وتساعد هذه الجهود الشركات على التكيف مع الأزمة وزيادة القدرة التنافسية والحفاظ على فرص العمل ومواصلة تقديم الخدمات الحيوية، بما في ذلك التعليم والصحة والحماية الاجتماعية والحصول على التمويل.
 
-      لا بد من التوقف والاشادة بمجموعة البنك الدولي، لاسيما بعد الاطلاع على لائحة المشاريع الآيلة الى التنفيذ في الربع الاخير من العام الحالي، حيث بلغ حجم الارتباطات 45 مليار دولار منها 32 مليار دولار من البنك الدولي للانشاء والتعمير/المؤسسة الدولية للتنمية، و11 مليار دولار من مؤسسة التمويل الدولية، وملياري دولار من الوكالة الدولية لضمان الاستثمار، بما في ذلك من خلال صناديق الصرف السريع، لعمليات في أكثر من 100 بلد. ونرحب بالمرحلة الثانية من استجابة مؤسسة التمويل الدولية، التي ستشمل إعادة هيكلة واعادة رسملة الشركات والمؤسسات المالية القادرة على الاستمرار، فضلًا من دعم سلاسل القيمة للرعاية الصحية في الاقتصادات الناشئة والنامية. كما نتوقف عند الزيادة المقررة في عملية التجديد التاسعة عشر لموارد المؤسسة الدولية وحجمها 35 مليار دولار في السنة المالية 2021 لمساعدة البلدان المعنية على تلبية احتياجاتها الإنمائية الطويلة الأجل. وبالإضافة إلى ذلك، نشيد بصندوق النقد الدولي على استجابته السريعة والفعالة للأزمات، حيث قدم نحو 100 مليار دولار في شكل مساعدات لأكثر من 80 بلدًا خلال هذه الجائحة، من خلال تسهيلات التمويل في حالات الطوارئ. وندعو الصندوق الى مواصلة استخدام جميع الأدوات والموارد المتاحة لمساعدة الأعضاء على تحقيق مخرج دائم من الأزمة مع بناء اقتصادات اكثر مرونة وشمولاً.
 
-      تعتبر مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الديون ستة أشهر خطوة جبارة وهي تستوجب الإشادة، لاسيما مع اقترانها بدراسة ما إذا كان الوضع الإقتصادي والمالي يتطلب تمديد المبادرة لفترة ستة أشهر أخرى بحلول موعد عقد اجتماعات الربيع لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي 2021، إذا كان الوضع الاقتصادي والمالي يتطلب تحديد المبادرة لفترة ستة أشهر أخرى، مع استكمالات مستهدفة لمبادرة نيسان/أبريل 2020. ونشجع بقوة الدائنين من القطاع الخاص على المشاركة بشروط مماثلة عندما تطلب البلدان المؤهلة ذلك. وبفضل جهود الدائنين الثنائيين الرسميين، تعمل المبادرة على خلق حیز مالي تشتد الحاجة اليه و تدعم برامج التمويل التي تنفذها مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لأشد البلدان فقرًا.
 
-      ان تطلع مجموعة البنك الدولي إلى المرحلة المقبلة التي تلي القضاء على الجائحة أو محاصرتها على الأقل، والمرجح البدء بها في الفصل الأول من العام القادم، تتطلب الإشادة والمطالبة في الوقت نفسه: الإشادة بإهتمام البنك الدولي وصندوق النقد في مرحلتي الهيكلة والإنتعاش على مساعدة البلدان المعنية على إعادة البناء بشكل أفضل، مع التركيز على تعزيز اللبنات الأساسية لتحقيق انتعاش شامل ومستدام، وضمان الحصول على الطاقة وأمن الطاقة بتكلفة ميسورة، والتصدي للتحديات التي تواجه أوجه الضعف الاقتصادية والبيئية بما في ذلك تغير المناخ. والمطالبة بخطة عمل مقبلة   متعلقة بتغير المناخ، وتسريع وتيرة الانتعاش المرن الذي يركز على فرص العمل والتحول الاقتصادي. لذلك نطلب من مجموعة البنك الدولي تقديم المعارف والمشورة السياسية والمساندة المالية لمساعدة البلدان المعنية على تدعيم شبكات الامان الاجتماعي وتسهیل انتقال رأس المال والعمالة نحو القطاعات التي ستكون منتجة ومستدامة في سياق ما بعد الجائحة، مع إتاحة الابتكارات اللازمة لزيادة تمويل التجارة أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة ومواجهة تحديات القطاع غير الرسمي. ونحثّ المجموعة على دعم اجتذاب وتعبئة رأس المال الخاص والموارد التمويلية، وذلك من خلال منتجات مبتكرة من مؤسسة التمويل الدولية والوكالة الدولية لضمان الاستثمار، مع البناء على إستراتيجية مؤسسة التمويل الدولية لإنشاء الأسواق وتعزيز الإستثمارات والبنية التحتية الجيدة لتحقيق إنتعاش واسع النطاق وتنمية طويلة الأجل.
تتحرك مجموعة البنك على أكثر من محور عملي ونظري في محاولة للتغلب على الانتكاسة التي اصابت العالم بفعل جائحة كوفيد-19، وهي استطاعت تحقيق الكثير في هذا المجال تخفيفاً من المعاناة ورسماً لخارطة طريق مستقبلية.
  حتى في خضم أزمة تحدث مرة واحدة في القرن، اننا على يقين بأن حلولاً مستدامة ستنبثق من رحم هذه الأزمة، وتكون في جانب منها نتيجة لتبني التغيير البنّاء.
بالعمل سوياً، اعتقد اننا قادرون على احداث هذا التغيير البنّاء، وإختصار أمد هبوط النشاط الإقتصادي وبناء أساس قوي لنموذج للرخاء أكثر دواماً. نموذج يمكنه النهوض بكل البلدان وكل الشعوب.