حماية البشر والاستثمار في التنمية
التاريخ: 2020-10-01
بقلم: غازي أبو نحل، رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات Nest Investments (Holdings) L.T.D والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
في أقل من عام، غيّر فيروس كورونا المسبّب لمرض «كوفيد - 19» وجه العالم. ومن الواضح أن الجائحة باقية معنا وقتًا طويلًا، وتضرب ذات اليمين وذات اليسار مسببة أضرارًا كبيرة على أكثر من صعيد، أخطرها على الإطلاق الصعيد الاقتصادي. ولعلّ أولى المسلّمات في ظل التراجع والانكماش، هي أن العالم كله يجب أن يعيد ترتيب أولوياته في انتظار عبور النفق والخروج الى النور.
رأينا الحكومات في أنحاء العالم تستجيب للأزمة الصحية والاقتصادية بسرعة نسبية، انما بطرق غير منسقّة الى حد كبير، وهو أمر ليس بمفاجئ لأن النظرة إلى المشكلة تختلف باختلاف الثقافات والأنظمة السياسية. وتفصيلًا، كانت هناك مقاربتان للتعامل مع الوباء، قضت الأولى بجعل الأولوية تقليل الضرر الاقتصادي من خلال السماح للفيروس بالانتشار دون رادع حقيقي، على الرغم من الضغط الذي سبّبه ذلك على النظام الصحي. أما الثانية فأوجبت اعتماد ابطاء متعمد للنشاط الاقتصادي بهدف احتواء الأخطار الصحية، وشمل هذا النهج اغلاق الحدود والتباعد الاجتماعي والحجر...
ويجدر بنا الالتفات إلى أن ضعف المناعة الاقتصادية ناجم في جزء منه عن كون الاقتصاد العالمي تلقى ضربة قاسية قبل 12 عامًا وعرف أزمة كانت الأكبر منذ ثلاثينات القرن العشرين، ولم يكد العالم يتخلّص من آخر تداعيات هذه الأزمة حتى جاء وباء کورونا ليطلق عاصفة غير مسبوقة. يضاف إلى ذلك، أن الركود المستجّد حصل في ظل حرب تجارية شرسة بين الولايات المتحدة والصين أثرّت على العالم من أقصاه إلى أقصاه.
لهذا كله، وأيًا تكن المقاربة المعتمدة في مواجهة الوباء، نرى أننا نتخبّط في خضم أعمق رکود على مدى السنوات الـ150 الماضية، مع استثناء سنوات الحروب من هذه الفترة. وتظهر كل التوقعات الاقتصادية الموثوقة، من مؤشرات البنك الدولي إلى أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وما بينهما من مؤسسات ومعاهد، أن تأثير كورونا مدمّر في كل زوايا الكرة الأرضية، وان ببعض التفاوت بين دولة وأخرى.
يتحدث الكل في الأرقام والخسائر في الموازنات والنسب في تراجعات الدخل العالمي والدولي ومعدلات النهوض والنمو ومواعيد الإقفال والإغلاق والافتتاح... في إنتظار عودة الحركة إلى اقتصادات العالم.
لكن ماذا عن الفقر والبطالة والمجاعة ومؤشرات رأس المال البشري؟
في مقال سابق، كانت تقديراتنا قد أشارت إلى أن تفشي فيروس كورونا يتسبب في سقوط ما يتراوح بين 40 و 60 مليون شخص في براثن الفقر المدقع. ومنذ ذلك الحين، تحوّل مركز هذه الجائحة من أوروبا وأميركا الشمالية إلى جنوب العالم. وقد أدى ذلك إلى زيادة أعداد الوفيات في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل طوال فترة الإغلاق، وارتفاع التكاليف الاقتصادية لهذه الجائحة. وبالتالي، تغيّرت كذلك تقديراتنا لتأثير هذا الفيروس على معدلات الفقر في العالم.
باستخدام تنبؤات النمو الصادرة حديثًا في حزيران/يونيو والواردة في تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، يمكننا تحديث التقديرات الخاصة بتأثيرات هذه الجائحة على معدلات الفقر عالميًا، وتوضع تنبؤات النمو الجديدة وفق سيناريوهين - سيناريو أساسي وسيناريو تدهور الأوضاع، مما يتيح لنا استكشاف سيناريوهين مختلفين لكيفية تأثير هذه الجائحة على معدلات الفقر. ويفترض السيناريو الأساسي استمرار تفشي هذا الفيروس بالمستويات المتوقعة حاليًا وتعافي النشاط في وقت لاحق من هذا العام، فيما يفترض سيناريو تدهور الأوضاع استمرار التفشي لفترة أطول من المتوقع، مما يجبر البلدان على الإبقاء على تدابير الإغلاق أو إعادة تطبيقها. واذا تحقق السيناريو الثاني، فإن الشركات الأكثر تأثرًا ستخرج من الأسواق، وستقلص الأسر المعيشية المحتاجة استهلاكها بشكل حاد، وستتعرض العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لضغوط مالية شديدة. ويتوقع السيناريو الأول انكماش معدل النمو العالمي بنحو 5 % في عام 2020، فيما يتوقع السيناريو الثاني وصول هذا الانكماش إلى 8% في العام ذاته.
وباستخدام الطريقة ذاتها التي ذكرناها في المقال السابق، نقدّر تأثير فيروس كورونا على معدلات الفقر من خلال مقارنة توقعات الفقر التي تستخدم التقديرات الجديدة لإجمالي الناتج المحلي بتلك التي تستند إلى تقديرات إجمالي الناتج المحلي قبل تفشي هذه الجائحة، وفي ظل السيناريو نتوقع أن يؤدي فيروس كورونا إلى سقوط 71 مليون شخص في براثن الفقر المدقع على أساس خط الفقر الدولي، وهو 1.90 دولار للفرد في اليوم، وأما في ظل سيناريو تدهور الأوضاع، فسيرتفع هذا العدد إلى 100 مليون.
ومن المتوقع أن تنخفض تحويلات المغتربين والمهاجرين واللاجئين عبر الحدود بنسبة 20% في المتوسط هذا العام، علماً بأن قيمة التحويلات المالية تجاوزت قيمة المعونات الدولية للبلدان المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف العام الماضي، وقد قتلت شريان حياة رئيسي للعديد من المجتمعات الأكثر فقراً في هذه البيئات.
تهدّد جائحة كورونا المكاسب التي تحققت في مجالَي الصحة والتعليم على مدى العقود الماضية، خصوصًا في اشد بلدان العالم فقرًا. فالاستثمارات في رأس المال البشري-المعارف والمهارات والصحة التي تتراكم لدى البشر على مدى حياتهم-هي الأساس لإطلاق العنان لإمكانات اي طفل وزيادة النمو الاقتصادي في كل بلد.
يتضمن مؤشر رأس المال البشري 2020، الذي وضعته مجموعة البنك الدولي، بيانات عن الصحة والتعليم في 174 بلدًا تغطي ٩٨٪ من سكان العالم، وذلك في شهر آذار/مارس 2020 مما يتيح خط اساس لما قبل تفشي الجائحة بشأن صحة الأطفال وتعليمهم. ويظهر التحليل ان معظم البلدان قد حقّقت تقدمًا ملحوظًا في بناء رأس المال البشري للأطفال قبل تفشي الجائحة، مع تحقيق اكبر القفزات في البلدان المنخفضة الدخل. على الرغم من هذا التقدم، وحتى قبل انتشار فيروس كوفيد 19، يمكن ان يتوقع الطفل المولود في بلد ما، الا يحقق سوى ٥٦٪ من امكانات رأسماله البشري، بالمقارنة مع معيار التعليم الكامل والصحة الوافرة.
يقدم مؤشر رأس المال البشري 2020 ايضًا، نظرة لتطور نتائج رأس المال البشري على مدى عقد من الزمن (2010-2020) حيث تبين تحقيق تحسينات في جميع مناطق العالم، اينما توفرت البيانات، وفي جميع مستويات الدخل. يرجع ذلك، الى حد كبير، الى التحسينات في مستوى الصحة، وهو ما تبشر في تحسن معدلات بقاء الاطفال والكبار على قيد الحياة، فضلًا عن زيادة الالتحاق بالمدارس... لكن هذا التقدم معرض الآن للخطر بسبب الجائحة العالمية.
هذه الجائحة تعرض للخطر أيضًا كل ما تحقق من تقدم خلال العقد الماضي في بناء رأس المال البشري، بما في ذلك التحسينات في مستوى الصحة ومعدلات البقاء على قيد الحياة والالتحاق بالمدارس وزيادة اعداد الفقر ونسب البطالة وانعدام الأمن الغذائي...
تسببت الجائحة في افلاس العديد من المؤسسات والشركات وتراجع النشاط الاقتصادي، مما ادى الى ارتفاع قياسي في نسب البطالة وزيادة معدلات الفقر، كما في عدم انتظام معظم الأطفال، اكثر من مليار طفل، في الالتحاق بمدارسهم في ظل عدم قدرة البنى التحتيه على تعميم الدراسة عن البعد، كما العمل عن البعد وقد يخسرون في المتوسط نصف عام من التعليم، كما تظهر البيانات والأرقام المتوافرة تعطلًا ملموسًا في الخدمات الصحية الأساسية وزيادة معدلات العوز والفقر بشكل غير مسبوق.
خلال السنوات القليلة الماضية، ازدادت أوضاع الهشاشة والصراع زيادة مطردّة على مستوى العالم، وتعدّ البلدان المتأثرة بهذه الأوضاع بشكل خاص الأكثر تضررًا من الفقر، وهي في تزايد مستمر حاليًا في توسع جائحة كورونا. وقد اشارت تقديراتنا في مقالات سابقة، الى انه بحلول العام 2030 سيعيش ما يصل الى ثلثي فقراء العالم المدقعين في بلدان متأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ومن المرجّح ان تؤدي الجائحة الى تفاقم هذا الوضع. ولن تتحقق اهداف التنمية المستدامة في هذه البيئات الهشة، حيث يتمثل التحدي في تأمين السلام وفرص التنمية الشاملة والمستدامة. وفي الوقت نفسه فإننا ندعو المجتمع الدولي للاضطلاع بدوره في ترسيخ السلام وفرص التنمية الشاملة والمستدامة وتقديم المساعدة الإنمائية اللازمة.
بوسع بلدان العالم ان تفعل ما هو اكثر من مجرد العمل لاستعادة ما خسرته من تقدم. فمن اجل حمايه وتوسيع نطاق المكاسب السابقة في رأس المال البشري، تحتاج هذه البلدان الى التوسع في جودة الخدمات الصحية ونطاق تغطيتها في المجتمعات المهمشة، وتعزيز و تنويع اساليب التعلّم الى جانب الالتحاق بالمدارس، ودعم الأسر المحرومة والعاطلين عن العمل من خلال تدابير الحماية الاجتماعية التي تتكيّف مع حجم ازمة جائحة كورونا.
والمهمة تقع ايضًا على عاتق الشركات العملاقة والعابرة للقارات، كما على اصحاب الرساميل ومؤسسات المجتمع المدني...
ان حماية البشر والاستثمار فيهم امر حيوي واساسي في الوقت الذي تعمل فيه مختلف البلدان على ارساء الأساس للتعافي المستدام الشامل والنمو المستقبلي.
يقول الخبير الاقتصادي والاكاديمي الاميركي جوزف ستيغليتز، الفائز بنوبل الاقتصاد 2001، ان العالم لم يأخذ العبر اللازمة من ازمة 2008 و 2009 خصوصًا ضرورة تمتع الاقتصاد العالمي والنظام المالي بالمرونة اللازمة للحؤول دون سقوطه مثل حجار الدومينو عند اول اهتزاز، ويرى ان النظام الاقتصادي الذي سينشأ بعد الوباء يجب ان يستوعب واقع ان العولمة الاقتصادية تجاوزت العولمة السياسية بكثير، وبالتالي على البلدان ان تسعى لتحقيق توازن افضل بين الاستفادة من العولمة وامتلاك مقدار من الاعتماد على الذات.
نضيف ان المأساة في التجارب السابقة علمتنا ان التنمية الاقتصادية والقدرة على الصمود في وجه الأزمات يجب ان يكونا شيئًا واحدًا. فالاستثمارات التي نقوم بها في مجال التكيّف والتنمية تنقذ الأرواح وتجنبنا اعادة البناء مرات ومرات. انها تمنح اقتصاداتنا القدرة على الصمود للتعافي بعد الكوارث دون الاضطرار للبدء من جديد واعادة رسم مسار تقدمنا.
في أقل من عام، غيّر فيروس كورونا المسبّب لمرض «كوفيد - 19» وجه العالم. ومن الواضح أن الجائحة باقية معنا وقتًا طويلًا، وتضرب ذات اليمين وذات اليسار مسببة أضرارًا كبيرة على أكثر من صعيد، أخطرها على الإطلاق الصعيد الاقتصادي. ولعلّ أولى المسلّمات في ظل التراجع والانكماش، هي أن العالم كله يجب أن يعيد ترتيب أولوياته في انتظار عبور النفق والخروج الى النور.
رأينا الحكومات في أنحاء العالم تستجيب للأزمة الصحية والاقتصادية بسرعة نسبية، انما بطرق غير منسقّة الى حد كبير، وهو أمر ليس بمفاجئ لأن النظرة إلى المشكلة تختلف باختلاف الثقافات والأنظمة السياسية. وتفصيلًا، كانت هناك مقاربتان للتعامل مع الوباء، قضت الأولى بجعل الأولوية تقليل الضرر الاقتصادي من خلال السماح للفيروس بالانتشار دون رادع حقيقي، على الرغم من الضغط الذي سبّبه ذلك على النظام الصحي. أما الثانية فأوجبت اعتماد ابطاء متعمد للنشاط الاقتصادي بهدف احتواء الأخطار الصحية، وشمل هذا النهج اغلاق الحدود والتباعد الاجتماعي والحجر...
ويجدر بنا الالتفات إلى أن ضعف المناعة الاقتصادية ناجم في جزء منه عن كون الاقتصاد العالمي تلقى ضربة قاسية قبل 12 عامًا وعرف أزمة كانت الأكبر منذ ثلاثينات القرن العشرين، ولم يكد العالم يتخلّص من آخر تداعيات هذه الأزمة حتى جاء وباء کورونا ليطلق عاصفة غير مسبوقة. يضاف إلى ذلك، أن الركود المستجّد حصل في ظل حرب تجارية شرسة بين الولايات المتحدة والصين أثرّت على العالم من أقصاه إلى أقصاه.
لهذا كله، وأيًا تكن المقاربة المعتمدة في مواجهة الوباء، نرى أننا نتخبّط في خضم أعمق رکود على مدى السنوات الـ150 الماضية، مع استثناء سنوات الحروب من هذه الفترة. وتظهر كل التوقعات الاقتصادية الموثوقة، من مؤشرات البنك الدولي إلى أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وما بينهما من مؤسسات ومعاهد، أن تأثير كورونا مدمّر في كل زوايا الكرة الأرضية، وان ببعض التفاوت بين دولة وأخرى.
يتحدث الكل في الأرقام والخسائر في الموازنات والنسب في تراجعات الدخل العالمي والدولي ومعدلات النهوض والنمو ومواعيد الإقفال والإغلاق والافتتاح... في إنتظار عودة الحركة إلى اقتصادات العالم.
لكن ماذا عن الفقر والبطالة والمجاعة ومؤشرات رأس المال البشري؟
في مقال سابق، كانت تقديراتنا قد أشارت إلى أن تفشي فيروس كورونا يتسبب في سقوط ما يتراوح بين 40 و 60 مليون شخص في براثن الفقر المدقع. ومنذ ذلك الحين، تحوّل مركز هذه الجائحة من أوروبا وأميركا الشمالية إلى جنوب العالم. وقد أدى ذلك إلى زيادة أعداد الوفيات في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل طوال فترة الإغلاق، وارتفاع التكاليف الاقتصادية لهذه الجائحة. وبالتالي، تغيّرت كذلك تقديراتنا لتأثير هذا الفيروس على معدلات الفقر في العالم.
باستخدام تنبؤات النمو الصادرة حديثًا في حزيران/يونيو والواردة في تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، يمكننا تحديث التقديرات الخاصة بتأثيرات هذه الجائحة على معدلات الفقر عالميًا، وتوضع تنبؤات النمو الجديدة وفق سيناريوهين - سيناريو أساسي وسيناريو تدهور الأوضاع، مما يتيح لنا استكشاف سيناريوهين مختلفين لكيفية تأثير هذه الجائحة على معدلات الفقر. ويفترض السيناريو الأساسي استمرار تفشي هذا الفيروس بالمستويات المتوقعة حاليًا وتعافي النشاط في وقت لاحق من هذا العام، فيما يفترض سيناريو تدهور الأوضاع استمرار التفشي لفترة أطول من المتوقع، مما يجبر البلدان على الإبقاء على تدابير الإغلاق أو إعادة تطبيقها. واذا تحقق السيناريو الثاني، فإن الشركات الأكثر تأثرًا ستخرج من الأسواق، وستقلص الأسر المعيشية المحتاجة استهلاكها بشكل حاد، وستتعرض العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لضغوط مالية شديدة. ويتوقع السيناريو الأول انكماش معدل النمو العالمي بنحو 5 % في عام 2020، فيما يتوقع السيناريو الثاني وصول هذا الانكماش إلى 8% في العام ذاته.
وباستخدام الطريقة ذاتها التي ذكرناها في المقال السابق، نقدّر تأثير فيروس كورونا على معدلات الفقر من خلال مقارنة توقعات الفقر التي تستخدم التقديرات الجديدة لإجمالي الناتج المحلي بتلك التي تستند إلى تقديرات إجمالي الناتج المحلي قبل تفشي هذه الجائحة، وفي ظل السيناريو نتوقع أن يؤدي فيروس كورونا إلى سقوط 71 مليون شخص في براثن الفقر المدقع على أساس خط الفقر الدولي، وهو 1.90 دولار للفرد في اليوم، وأما في ظل سيناريو تدهور الأوضاع، فسيرتفع هذا العدد إلى 100 مليون.
ومن المتوقع أن تنخفض تحويلات المغتربين والمهاجرين واللاجئين عبر الحدود بنسبة 20% في المتوسط هذا العام، علماً بأن قيمة التحويلات المالية تجاوزت قيمة المعونات الدولية للبلدان المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف العام الماضي، وقد قتلت شريان حياة رئيسي للعديد من المجتمعات الأكثر فقراً في هذه البيئات.
تهدّد جائحة كورونا المكاسب التي تحققت في مجالَي الصحة والتعليم على مدى العقود الماضية، خصوصًا في اشد بلدان العالم فقرًا. فالاستثمارات في رأس المال البشري-المعارف والمهارات والصحة التي تتراكم لدى البشر على مدى حياتهم-هي الأساس لإطلاق العنان لإمكانات اي طفل وزيادة النمو الاقتصادي في كل بلد.
يتضمن مؤشر رأس المال البشري 2020، الذي وضعته مجموعة البنك الدولي، بيانات عن الصحة والتعليم في 174 بلدًا تغطي ٩٨٪ من سكان العالم، وذلك في شهر آذار/مارس 2020 مما يتيح خط اساس لما قبل تفشي الجائحة بشأن صحة الأطفال وتعليمهم. ويظهر التحليل ان معظم البلدان قد حقّقت تقدمًا ملحوظًا في بناء رأس المال البشري للأطفال قبل تفشي الجائحة، مع تحقيق اكبر القفزات في البلدان المنخفضة الدخل. على الرغم من هذا التقدم، وحتى قبل انتشار فيروس كوفيد 19، يمكن ان يتوقع الطفل المولود في بلد ما، الا يحقق سوى ٥٦٪ من امكانات رأسماله البشري، بالمقارنة مع معيار التعليم الكامل والصحة الوافرة.
يقدم مؤشر رأس المال البشري 2020 ايضًا، نظرة لتطور نتائج رأس المال البشري على مدى عقد من الزمن (2010-2020) حيث تبين تحقيق تحسينات في جميع مناطق العالم، اينما توفرت البيانات، وفي جميع مستويات الدخل. يرجع ذلك، الى حد كبير، الى التحسينات في مستوى الصحة، وهو ما تبشر في تحسن معدلات بقاء الاطفال والكبار على قيد الحياة، فضلًا عن زيادة الالتحاق بالمدارس... لكن هذا التقدم معرض الآن للخطر بسبب الجائحة العالمية.
هذه الجائحة تعرض للخطر أيضًا كل ما تحقق من تقدم خلال العقد الماضي في بناء رأس المال البشري، بما في ذلك التحسينات في مستوى الصحة ومعدلات البقاء على قيد الحياة والالتحاق بالمدارس وزيادة اعداد الفقر ونسب البطالة وانعدام الأمن الغذائي...
تسببت الجائحة في افلاس العديد من المؤسسات والشركات وتراجع النشاط الاقتصادي، مما ادى الى ارتفاع قياسي في نسب البطالة وزيادة معدلات الفقر، كما في عدم انتظام معظم الأطفال، اكثر من مليار طفل، في الالتحاق بمدارسهم في ظل عدم قدرة البنى التحتيه على تعميم الدراسة عن البعد، كما العمل عن البعد وقد يخسرون في المتوسط نصف عام من التعليم، كما تظهر البيانات والأرقام المتوافرة تعطلًا ملموسًا في الخدمات الصحية الأساسية وزيادة معدلات العوز والفقر بشكل غير مسبوق.
خلال السنوات القليلة الماضية، ازدادت أوضاع الهشاشة والصراع زيادة مطردّة على مستوى العالم، وتعدّ البلدان المتأثرة بهذه الأوضاع بشكل خاص الأكثر تضررًا من الفقر، وهي في تزايد مستمر حاليًا في توسع جائحة كورونا. وقد اشارت تقديراتنا في مقالات سابقة، الى انه بحلول العام 2030 سيعيش ما يصل الى ثلثي فقراء العالم المدقعين في بلدان متأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ومن المرجّح ان تؤدي الجائحة الى تفاقم هذا الوضع. ولن تتحقق اهداف التنمية المستدامة في هذه البيئات الهشة، حيث يتمثل التحدي في تأمين السلام وفرص التنمية الشاملة والمستدامة. وفي الوقت نفسه فإننا ندعو المجتمع الدولي للاضطلاع بدوره في ترسيخ السلام وفرص التنمية الشاملة والمستدامة وتقديم المساعدة الإنمائية اللازمة.
بوسع بلدان العالم ان تفعل ما هو اكثر من مجرد العمل لاستعادة ما خسرته من تقدم. فمن اجل حمايه وتوسيع نطاق المكاسب السابقة في رأس المال البشري، تحتاج هذه البلدان الى التوسع في جودة الخدمات الصحية ونطاق تغطيتها في المجتمعات المهمشة، وتعزيز و تنويع اساليب التعلّم الى جانب الالتحاق بالمدارس، ودعم الأسر المحرومة والعاطلين عن العمل من خلال تدابير الحماية الاجتماعية التي تتكيّف مع حجم ازمة جائحة كورونا.
والمهمة تقع ايضًا على عاتق الشركات العملاقة والعابرة للقارات، كما على اصحاب الرساميل ومؤسسات المجتمع المدني...
ان حماية البشر والاستثمار فيهم امر حيوي واساسي في الوقت الذي تعمل فيه مختلف البلدان على ارساء الأساس للتعافي المستدام الشامل والنمو المستقبلي.
يقول الخبير الاقتصادي والاكاديمي الاميركي جوزف ستيغليتز، الفائز بنوبل الاقتصاد 2001، ان العالم لم يأخذ العبر اللازمة من ازمة 2008 و 2009 خصوصًا ضرورة تمتع الاقتصاد العالمي والنظام المالي بالمرونة اللازمة للحؤول دون سقوطه مثل حجار الدومينو عند اول اهتزاز، ويرى ان النظام الاقتصادي الذي سينشأ بعد الوباء يجب ان يستوعب واقع ان العولمة الاقتصادية تجاوزت العولمة السياسية بكثير، وبالتالي على البلدان ان تسعى لتحقيق توازن افضل بين الاستفادة من العولمة وامتلاك مقدار من الاعتماد على الذات.
نضيف ان المأساة في التجارب السابقة علمتنا ان التنمية الاقتصادية والقدرة على الصمود في وجه الأزمات يجب ان يكونا شيئًا واحدًا. فالاستثمارات التي نقوم بها في مجال التكيّف والتنمية تنقذ الأرواح وتجنبنا اعادة البناء مرات ومرات. انها تمنح اقتصاداتنا القدرة على الصمود للتعافي بعد الكوارث دون الاضطرار للبدء من جديد واعادة رسم مسار تقدمنا.